تخوض إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية حربا منذ نحو أربعة أشهر في قطاع غزة. معارك تدور على السطح وأخرى داخل أنفاق القطاع التي يطلق عليها اسم “مترو غزة”. هذه المتاهة المتشعبة تحت الأرض لا تتوقف أبدا عن الكشف عن مفاجآتها.
“هي حرب عصابات ذات بعدين: الأول فوق الأرض والثاني تحتها. لكن للقتال على السطح، يتوجب عليك السيطرة عما يدور تحت الأرض”، يقول الرائد إيدو، ضابط العمليات في سلاح الهندسة القتالية لدى الجيش الإسرائيلي.
فبعد مرور نحو أربعة أشهر على بدء الحرب بين حماس وإسرائيل، حرب أخرى تدور خلف الستار والأنظار داخل أنفاق قطاع غزة.
فوفق المعلومات التي نشرها الجيش الإسرائيلي -وهو الوحيد الذي يستطيع الدخول إلى هذه الأنفاق- فقد أنشأت حماس حصنا واسعا يضم أكثر من 1400 نفق، على مسافة طولها يتعدى 500 كيلومتر.
وأكد الرائد إيدو وجود “أنفاق ذات طابع تكتيكي قرب الحدود استخدمها مقاتلو حماس للهجوم بشكل مفاجئ على بعض “الكيبوتسات”وأوقعوا خسائر في صفوف جنودنا على السطح”، مشيرا أن جميع “الأنفاق لها ارتباط بمترو غزة الذي يسمح بمرور السيارات والذخائر والرهائن”.
اقرأ أيضا“فكرة اشتراكية”…كيبوتس “البيت” المشترك للآلاف من الإسرائيليين
من أنفاق التهريب إلى أنفاق التكتيكات
في البداية، بنيت الأنفاق لغرض تهريب البضائع من مصر إلى غزة خلال الانتفاضة الأولى التي حدثت في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين 1987 و1993، فيما تم تحديثها بشكل كبير خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.
وتصف دافنيه ريشموند باراك -أستاذة في جامعة ريشمان وصاحبة كتاب “حرب تحت الأرض” الصادر في 2018- أنفاق حماس بأنها “واحدة من بين أكبر وأعقد الأنفاق وأكثرها تطورا التي بنيت في تاريخ الحروب”.
اقرأ أيضاالحرب بين حماس وإسرائيل: لماذا ينتقد نتانياهو وحلفاؤه قطر؟
وتقول: “هذه البنية التحتية (تقصد الأنفاق) تحتوي على كل ما تحتاجه حماس للقيام بحربها.. سواء تعلق الأمر بالأسلحة ومراكز القيادة أو بالمواد الغذائية. فهي بمثابة الأوكسجين بالنسبة لها”. تم تعزيز بعض الأنفاق بالإسمنت الحديدي وهي مجهزة بالكهرباء وأنظمة اتصال متطورة وبنظام للتهوية والصرف الصحي. كل هذه الأنظمة تم تشييدها تحت الأرض. ويصل عمق بعض الأنفاق حسب الرائد إيدو إلى” 40 مترا أو أكثر بكثير في بعض المواقع فما يزال البحث جاريا”.
في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي اكتشاف “أكبر نفق” معروف. وهو عبارة عن شبكة واسعة من المتاهات تنقسم إلى عدة فروع وتمتد على مسافة طولها 4 كيلومترات وتقع على مقربة 400 متر فقط من معبر إريز الفاصل بين إسرائيل وشمال قطاع غزة.
خلال هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، استخدمت قوات الكوماندوس التابعة لحماس قنبلة صاروخية لتدمير جزء من الجدار بهدف تجاوز نقطة تفتيش أمني وعبورها، وفق ما أفادت به الوكالة الأمريكية أسوشيتد برس.
حرب ضروس تحت الأرض
و”كتب جون سبنسر، مسؤول الدراسات في معهد الحروب الحديثة بالأكاديمية العسكرية الإسرائيلية ومتخصص في الحروب التي تدور في وسط المدن “سيتبين، عندما يتم الكشف عن شبكة الأنفاق الشاسعة التي بنتها حماس تحت الأرض، على أنها من أكبر الشبكات التي واجهها جيش حديث”.
وواصل “النزاع الأخير الذي تميز بوجود عدد كبير من الأنفاق يعود إلى الحرب الفيتنامية، إذ واجه الجيش الأمريكي عددا كبيرا من الأنفاق بلغت مسافة بعضها 60 كيلومترا. في مدينة سايغون مثلا، وصلت مسافة بعض الأنفاق إلى 210 كيلومتر”.
اقرأ أيضاتصاعد حدة المعارك بجنوب قطاع غزة والأمم المتحدة تقول إن آلاف المدنيين يواجهون “ظروفا يائسة”
الاعتماد على الأنفاق ليست فكرة جديدة. لقد عرفنا ذلك خلال الحرب العالمية الأولى، وفي أفغانستان والعراق وفي أوكرانيا وبالتحديد في منطقة ماريوبول وبلدتي باخموت وسوليدار…
هذا الشكل من الحرب الأشد شراسة وتعقيدا يعتمد في الأساس على عنصر واحد، ألا وهو المفاجأة. فبإمكان عناصر الكوماندوس أن يختبؤوا أو ينفذوا كمائن أو يفخخوا جزء من النفق أو كله.
وجدير بالذكر أيضا أنه في 2011، حسب دافنيه ريشموند باراك “واجه الجيش الفرنسي صعوبات عدة بمحاربة تنظيم “القاعدة في المغرب الإسلامي” الذي كانت عناصره تختبأ داخل الأنفاق وفي كهوف بالجبال”.
وقالت ” أما فيما يتعلق بغزة، فيتم المزج في آن واحد بين حرب المدن وحرب الأنفاق. وهذا ما جعل الجنود الإسرائيليين يواجهون صعوبات كثيرة. وهناك سببان وراء ذلك: أولا استحالة معرفة كل فروع وتشعبات الأنفاق. ثانيا ضرورة حماية الرهائن والمدنيين المتواجدين في غزة. فالمهمة صعبة للغاية”.
ويتفق الجيش الإسرائيلي مع هذا التحليل إذ أضاف الرائد إيدو أن “هذا النوع من الحرب يتطلب الكثير من الوقت ويشبه عملية جراحية. لذا يجب علينا أن نعثر على كل بئر ونفهم جيدا بأي نفق هو مرتبط. إنها الطريقة الوحيدة لكسب هذه الحرب. ببطء لكن بثقة عالية”.
2014 سنة شكلت منعرجا للجيش الإسرائيلي
في 2014، أظهرت العملية العسكرية التي نفذها الجيش الإسرائيلي والتي سميت بـ” الجرف الصامد” الأهمية الاستراتيجية للأنفاق. فخلال هذه السنة، كشفت إسرائيل مدى ضخامة شبكة الأنفاق التي بنتها حماس تحت الأرض والمخاطر الأمنية التي تشكلها. كما تم أيضا كشف الآبار المؤدية إلى هذه الأنفاق.
اقرأ أيضاوزير الدفاع الإسرائيلي: لقد قمنا بتصفية أكثر من ربع مسلحي حماس
وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بث الجيش الإسرائيلي فيديوهات تبين نفقا بني بالإسمنت الحديدي قرب مستشفى الشفاء في مدينة غزة. وكانت تل أبيب تتهم دائما حركة حماس ببناء أنفاق ومواقع عسكرية تطلق منها صواريخها في المناطق التي تعج بالسكان فضلا عن استخدام المدنيين كدروع بشرية.
وتعتقد دافنيه ريشموند باراك ” أن هذه الأنفاق تمتد تحت منازل المدنيين، وفي بعض الأحيان تتمتع بفتحات يمكن أن تؤدي حتى إلى داخل المطابخ في البيوت أو تمر تحت المستشفيات والمدارس التابعة للأمم المتحدة لأن استراتيجية حماس، وفق ريشموند، تعتمد على تحصين الأهداف العسكرية وذلك ببنائها في مناطق مكتظة بالمدنيين. وهذا يشكل جريمة حرب”. لكن حركة حماس المصنفة منظمة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي وفرنسا ترفض هذه الاتهامات وتنفي ذلك.
وعلى مدى 51 يوما من المعارك في 2014، قام الجيش الإسرائيلي بهدم 34 نفقا وهو رقم صغير مقارنة بعدد الأنفاق المتواجدة في غزة. كما قررت إسرائيل أيضا تعزيز دفاعاتها قرب قطاع غزة وبناء سياج أمني يدعى بـ “الجدار الحديدي” مزود بمستشعرات تحت الأرض وبرادارات وقاعات لمراقبة الوضع. وبلغت تكاليف هذه العملية الأمنية حوالي مليار دولار لكن رغم ذلك لم يمنع حماس من تنفيذ هجمات في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
من جهة أخرى، تم تكوين وتدريب فرق عسكرية من أجل البحث وتدمير الأنفاق، على غرار وحدة يهالوم الخاصة. وهي فرقة نخبة تابعة لقطاع الهندسة العسكرية. جنود هذه النخبة استفادوا من تدريبات عسكرية حديثة ويمتلكون أجهزة عسكرية ومعدات اتصال متطورة وفائقة الدقة لمواجهة التحديات الأمنية التي تشكلها هذه الأنفاق الشاسعة.
الأنفاق، استراتيجية سياسية وعسكرية لحماس
تحولت هذه الأنفاق على مدى السنين إلى حجر أساس في الاستراتيجية السياسية والعسكرية لحركة حماس. وانطلاقا من 2005 تاريخ مغادرة الجيش الإسرائيلي لغزة، شرعت حماس في بناء شبكة كبيرة من الأنفاق، فيما تسارعت وتيرة البناء أكثر في 2007 عقب استبعاد السلطة الفلسطينية من قطاع غزة وسيطرة حماس على القطاع بشكل كامل. ووفق بعض الأرقام التي صرح بها الرائد إيدو، فلقد بلغت تكلفة بناء الأنفاق “14 مليار دولار”.
من جهتها، أضافت دافنيه ريشموند باراك أن ” حماس تعتمد على استراتيجية الحرب تحت الأرض منذ أكثر من عشرين عاما. هذه الحركة الإرهابية أدركت أنها تستطيع أن تجني أرباحا من عمليات تهريب السلع ولكن أيضا من عمليات اختطاف الرهائن الإسرائيليين سواء كانوا جنودا أو مدنيين أو من أجل التسلل إلى الأراضي الإسرائيلية وتخطيط عمليات عسكرية بعيدا عن أنظار القوات الإسرائيلية”.
وتابعت” بفضل الأنفاق، بإمكان مقاتلي حماس تدارك النقص التكنولوجي الذي يشكون منه مقارنة بالجيش الإسرائيلي وخوض معارك ضد جيش متطور يتمتع بتجهيزات وأسلحة متقدمة جدا”.
ومما يعقد أكثر من العمليات العسكرية الإسرائيلية هو صعوبة استخدام الأجهزة الإلكترونية داخل الأنفاق لأنها ببساطة لا تعمل، لذا من الصعب معرفة مخططات حماس وهذا ما قد يفسر هجمات 7 أكتوبر الماضي.
ومع المعارك على سطح الأرض وفي باطنها وكثرة العبوات الناسفة المزروعة داخل الأنفاق، يمكن القول أن أنفاق حماس تشكل التحدي الأكبر للجيش الإسرائيلي، ومما يزيد من صعوبتها وتعقيدها أكثر تواجد الرهائن الـ 136 المتبقيين. وبالتالي فتدمير أو إغراق “مترو غزة” بالمياه -كما اقترح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في -2014 ليس هو الحل الأمثل كونه مخاطرة سترفع من عدد الضحايا…
حمزة آسيا
Share this content:
اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.