ساد الغموض لوقت طويل حول من يقف وراء مجموعة فاغنر الروسية العسكرية. بعض وسائل الإعلام سمت مالكها بناء على تحقيقات صحافية في أكثر من مناسبة. ليتبين لاحقا بشكل ملموس أن مؤسسها هو يفغيني بريغوجين، الرجل المقرب من بوتين أو “طباخه” كما يوصف إعلاميا، وفق ما أقره المعني شخصيا قبل أن ينقلب ضده. فمن يكون هذا الثري الذي يملك سلسلة مطاعم جنت المليارات بفضل قرب صاحبها من الكرملين، بعد أن كان مجرد منحرف انطلق من لا شيء؟ والذي قاد ميليشيا عسكرية تنتشر في بلدان عدة كسوريا وليبيا، وادعى الدفاع عن شعوب عربية.
نشرت في: آخر تحديث:
بعد السنوات الطويلة من العلاقة المتشابكة مع رأس السلطة، انقلب بريغوجين السبت على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقيادته لتمرد مع مجموعته فاغنر ضد الجيش الروسي. ووصف سيد الكرملين هذا التحرك بـ”طعنة في الظهر”، متهما بريغوجين بـ”خيانة” روسيا بدافع “طموحات شخصية”، مشددا على أن المتمردين “سيعاقبون حتما”.
في سياق هذه الخطوة المفاجئة أعلن بريغوجين أن مجموعته، البالغ عددها 25 ألفا، “مستعدة للموت” من أجل “الوطن الأم” و”تحرير الشعب الروسي” من التسلسل الهرمي العسكري، معلنا تمرده من مدينة روستوف، 200 كلم شمال موسكو، حيث تتواجد مجموعته التي تواجه صعوبات جمة على جبهة القتال في الحرب الأوكرانية.
وظلت الكثير من الأسئلة تحيط بميليشيا مجموعة فاغنر الروسية المنتشرة في أكثر من بلد بينها سوريا، ليبيا، مالي، وأوكرانيا وغيرها. وفيما حاولت تحقيقات صحافية الإجابة عن البعض منها، أدى ثلاثة صحافيين مستقلين روس الثمن من أرواحهم في أفريقيا الوسطى، في صيف 2018، عندما حطوا الرحال بها في سياق تحقيق ميداني حول المجموعة.
وكان أبرز هذه الأسئلة: من يقف وراء هذه المجموعة التي ساندت نظام بشار الأسد في سوريا، ووفرت دعما عسكريا في مرحلة من مراحل النزاع الليبي لقوات حفتر في شرق البلاد في حربها على حكومة الوفاق في طرابلس؟ إلا أن الكرملين كان دائما يتمسك ببراءته منها، وينفي على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيا علاقته بها.
في البداية حاول بوتين أن يبرئ الدولة الروسية من تحركات المجموعة العسكرية، معتبرا أن ما يحركها أساسا هو “مصالحها”، إذ اضطر للحديث عنها أمام سيل الاتهامات التي وجهت للكرملين بخصوصها، معتبرا أنها مجرد شركة، لديها “مصالح خاصة مرتبطة باستخراج موارد الطاقة ومختلف الموارد” مثل الذهب والأحجار الكريمة.
وأكد بوتين، حينها، أنه إذا تضاربت أنشطة فاغنر مع “مصالح الدولة الروسية… بالتأكيد يجب أن نتصرف”، دون أن يشرح أين تبتدئ وتنتهي هذه المصالح، علما أن هذه الميلشيا المسلحة تتدخل في دول ذات سيادة، ويشتبه في أنها تنفذ منذ سنوات مهمات سرية للكرملين على مسارح عمليات مختلفة.
اعتراف بريغوجين
وبعد سنوات من الغموض، تبين في الأخير أن من يقود “فاغنر” هو أحد المقربين جدا من بوتين، المدعو يفغيني بريغوجين، والذي يوصف من طرف وسائل الإعلام الغربية بـ”طباخ” الرئيس الروسي، إذ أقر بنفسه أنه أسس “فاغنر” في 2014 للقتال في أوكرانيا، واعترف بانتشار عناصر منها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية خصوصا.
ففي بيان نشر على حسابات شركته “كونكورد” للمطاعم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكد بريغوجين أنه أسس هذه المجموعة لإرسال مقاتلين مؤهلين إلى منطقة دونباس الأوكرانية في 2014. وأضاف “منذ تلك اللحظة في الأول من أيار/مايو 2014، ولدت مجموعة وطنيين اتخذت اسم مجموعة كتيبة فاغنر التكتيكية”.
وتابع مؤكدا “تورط” هذه الميليشيا في أكثر من نزاع عبر العالم بالقول: “والآن إليكم اعتراف (..) هؤلاء الرجال الأبطال دافعوا عن الشعب السوري وشعوب عربية أخرى والأفارقة والأمريكيين اللاتينيين المعدومين، لقد أصبحوا أحد ركائز أمتنا”.
وهذا الاعتراف أتى ليزكي ما ذهبت إليه تقارير إعلامية سابقة، خاصة بعد نشر مالك “كونكورد” على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو، يظهر فيه وهو يجند سجناء في سجن روسي للقتال في صفوف مجموعته على الجبهة الأوكرانية.
كيف برز اسم بريغوجين؟
برز اسم بريغوجين، 61 عاما، في وسائل الإعلام الغربية خاصة في 2016 بعد أن فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية، لدور إحدى شركاته “وكالة الأبحاث على الإنترنت” في التأثير بالانتخابات الأمريكية التي أدت إلى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
كما فرض الاتحاد الأوروبي عليه عقوبات لدوره في مجموعة فاغنر العسكرية بأوكرانيا. ويعتبر اليوم إحدى الشخصيات الأكثر إثارة للجدل في نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وصار على لسان وسائل الإعلام داخل روسيا وخارجها، ولا سيما أنه انطلق من لا شيء ليتحول لأحد كبار الأغنياء في بلاده، بل وكسب مكانة خاصة في مربع القرار حتى أنه يصنف ضمن الشخصيات التي تشكل الدائرة الضيقة جدا للرئيس الروسي.
وإذا كان اسم بريغوجين قد ارتبط في الخارج بأنه رجل الدعاية الرقمية السامة لموسكو، فقد تميز في روسيا أيضا بدهائه في تشويه سمعة الحركات المعارضة. فبحسب تصريح ليوبوف سوبول، الناشط في مؤسسة أليكسي نافالني لمكافحة الفساد لصحيفة نيويورك تايمز: “إنه لا يخشى أن تتسخ يداه ليصل إلى هدفه”.
من الانحراف إلى الثروة
وعلى غرار بوتين، يتحدر بريغوجين من مدينة سان بطرسبورغ الروسية، التي عرف بها في مرحلة من سنوات شبابه كمنحرف، حكم عليه خلالها بالسجن 12 عاما، قضى منها عشر سنوات بتهم تتعلق بالسرقة والانتماء إلى عصابة. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، وظهور نظام جديد في روسيا، حاول استغلال الفرص المتاحة للعمل في التجارة.
ارتبطت مسيرته التجارية بتسويق الطعام والمواد الغذائية، فبدأها ببيع سندويشات النقانق قبل أن يخلق سلسلة متاجر للبقالة، ثم انتقل بعد ذلك إلى إحداث مطاعم، أشهرها موجود على المياه في مدينته الأصلية سان بطرسبورغ، حيث سبق أن استضاف الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي فتح له بوابة الكرملين، ليصبح “طباخه” عبر شركته.
وعلاقته بالكرملين، ستساعد شركته “كونكورد” للطعام أيضا على الحصول على مئات الملايين من العقود الحكومية لتوفير وجبات الأكل لأطفال المدارس والموظفين الحكوميين. كما حصد عقودا لتوريد وجبات إلى الجيش الروسي بقيمة تعادل مليار دولار أمريكي على الأقل في عام واحد.
واتهمت شركته بممارسات تجارية فاسدة. وزعم المعارض المعروف الموجود في السجون الروسية أليكسي نافالني في وقت سابق أن بريغوجين كان مرتبطا بشركة تدعى “موسكوفسكي شكولنيك” (تلميذ موسكو)، قدمت طعاما فاسدا إلى مدارس موسكو، ما تسبب في تفشي مرض الزحار.
وأمام التطورات الأخيرة، تطرح أسئلة كثيرة حول المرحلة القادمة على صعيد الوضع الداخلي في روسيا وكذلك مجريات تدخلها العسكري في أوكرانيا. هل تتجه روسيا نحو حرب اقتتال داخلية قد تأخذ منها وقتا طويلا؟ أم ستنجح موسكو في القضاء على تمرد بريغوجين في أسرع وقت؟ وكيف ستستفيد أوكرانيا من هذا الصراع الروسي الداخلي؟
بوعلام غبشي
Share this content:
اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.