تحتفل فرنسا كل عام بالعيد الوطني يوم 14 تموز/يوليو. تسود البلاد في هذا اليوم أجواء من الفرح والاحتفالات، ألعاب نارية ضخمة وحفلات فنية وأنشطة رياضية. كل هذا إحياء لذكرى اقتحام سجن الباستيل في 1789 وانتصار الثورة الفرنسية على النظام الملكي الذي كان قائما في حينه. كيف اعتمدت فرنسا هذا التاريخ ليكون “عيدها الوطني” وكيف يحتفل الفرنسيون بهذه المناسبة؟
نشرت في:
6 دقائق
في 1880 أقرت الجمهورية الثالثة في فرنسا يوم 14 تموز/يوليو، ذكرى اقتحام الباستيل (1789)، يوم عيد وطني يهدف إلى توحيد الفرنسيين وتذكيرا بـ”مهرجان الاتحاد” في 14 تموز/يوليو 1790 أو مهرجان المصالحة.
تميزت الاحتفالات بهذا اليوم في حينه بتدشين تماثيل الجمهورية وتوزيع الطعام على الفقراء ودق أجراس الكنائس. إضافة لذلك كله، إشراك الجيش بالاحتفالات، خاصة بعد الهزيمة التي تعرضت لها فرنسا في 1870 على يد بروسيا (كانت تضم في حينه كلا من ألمانيا وبولندا وأجزاء من روسيا وليتوانيا والدانمارك وبلجيكا والتشيك وهولندا) وخسارتها لمساحة كبيرة من أراضيها (الألزاس واللورين) لصالح الجارة اللدودة.
خلفية تاريخية
ربيع 1789 كان ساخنا بالمعنى السياسي للكلمة في باريس، اضطرابات ومظاهرات وتوترات أمنية كانت تسيطر على يوميات المدينة. مع إطلالة تموز/يوليو، استدعى الملك لويس 16 قوات إضافية من الجيش وعمد إلى إقالة وزراء واعتماد قوانين جديدة. صباح 14 تموز/يوليو كتبت باريس تاريخها الجديد، استولى السكان على مستودع أسلحة في منطقة “أنفاليد” واتجهوا إلى سجن “الباستيل”. اشتباكات دامية خاضها السكان مع حامية السجن، المئات سقطوا بين قتيل وجريح، إلى أن اقتحمت الحشود السجن وتمكنت من تحرير السجناء فيه.
كانت تلك الحادثة الخطوة الأولى التي تمكنت الثورة الفرنسية من تحقيقها باتجاه تغيير نظام الحكم القائم (الملكي) واعتماد الدستور الجديد. وتحول يوم اقتحام سجن “الباستيل”، الذي تم هدمه لاحقا، إلى يوم انتفاضة باريس على حكم الإقطاع.
لم تتحرك الجموع من فراغ، فقبل ثورتهم عاش الفرنسيون عقودا طويلة من الظلم والقمع والجوع والقرارات والإجراءات السياسية المتهورة التي فاقمت أزماتهم المعيشية والاقتصادية. قبيل الثورة، عمد لويس 16 إلى فرض حزمة جديدة من الضرائب على الشعب لمعالجة أزمة العجز الاقتصادي في حكومته، مستثنيا منها أصحاب النفوذ والنبلاء والإقطاعيين. قرار الملك عزز التمييز الطبقي في البلاد، الذي وجد طريقه إلى مناح مختلفة من حياة الفرنسيين حينها، تُمكن ملاحظته في مجلس النواب الذي كان مشكلا من ممثلين للطبقات الثلاث التي شكلت المجتمع الفرنسي: الأشراف ورجال الدين وعامة الشعب. في هذا المجلس، كانت الامتيازات والمناصب تمنح لممثلي الطبقتين الأولى والثانية حصرا.
تراكم الظلم وسوء الحكم وصل ذروته في 14 تموز/يوليو 1789، فإضافة لاقتحام “الباستيل”، رمز نظام الحكم الذي كان قائما حينها، باتت كلمات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، “حرية، مساواة، إخاء”، مبادئ خطّت طريق الجمهورية وحكمت مفاصلها.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الأسباب الموجبة التي دفعت الجماهير للشوارع لم تكن مقتصرة على الجوع، ولو أنه كان العامل الأساسي للحراك. فالكثير من المفكرين والفلاسفة كانوا قد مهدوا الطريق قبل ذلك لتغير مجرى الأحداث التاريخية في فرنسا، من فولتير (اعتقل أكثر من مرة في سجن الباستيل بسبب آرائه) المدافع عن المساواة الاجتماعية وتوزيع السلطات إلى روسو المنادي بالديمقراطية والحرية الفردية، إلى مونتسكيو صاحب الدعوة لتعزيز سطوة القانون واستقلال السلطة القضائية.
العيد الوطني اليوم
صباح الـ14 من تموز/يوليو، تستقبل جادة الشانزيليزيه أكبر وأقدم عرض عسكري في القارة الأوروبية بحضور رئيس الجمهورية وكبار مسؤولي الدولة. وجرت العادة أن تستقبل فرنسا كل عام في يومها الوطني ضيوفا من دول أخرى، يحضرون العرض ويشاركون المسؤولين أنشطة ذلك اليوم.
في هذا اليوم أيضا، تحيي باريس تقليدا يعود للعام 1937، إذ تقيم بعض محطات الإطفاء في المدينة حفلات راقصة للراغبين بالاحتفال. إضافة إلى ذلك، ينتظر الباريسيون والسياح على السواء حفل الألعاب النارية المسائي الذي تقيمه البلدية في برج إيفل. عشرات الآلاف يتجمهرون حول البرج الشهير في المدينة، إضافة إلى ضفاف نهر السين المطلة على الموقع، وعلى شرفات المنازل، ليشهدوا عرضا مهيبا لمدة 35 دقيقة من الألعاب النارية، يرافقه غالبا حفل فني.
الاحتفال في باريس تسبقه احتفالات مشابهة في المدن والأقاليم الأخرى قبل يوم، إذ تتبارى المناطق بإحياء العيد، كل على طريقتها، بالأنشطة الفنية والثقافية والعروض المسرحية، وطبعا الألعاب النارية.
14 تموز/يوليو يوم عطلة في فرنسا، كما جرت العادة على اعتباره اليوم الأول في شهر العطلة الصيفية “المقدس” عند الفرنسيين. غالبا ما يحزم سكان المدن الكبيرة أمتعتهم في ذلك اليوم، لينطلقوا بعد الاحتفالات إلى الريف أو إلى السواحل (المتوسط والشمال والأطلسي). خلال هذه الفترة، يحتل السياح معظم المدن الكبيرة، مثل باريس، التي يقصدونها للعطلة والاستجمام أيضا، ومنهم من يبدأ عطلته هناك قبيل اليوم الوطني، ليستمتع بالأنشطة التي تسبق الاحتفالات.
إضافة إلى هذا كله، وبالعودة إلى العرض العسكري التقليدي، غالبا ما تقوم باريس بدعوة ضيوف مميزين لمشاهدة العرض. وغالبا ما تكون لهذه الدعوات مآرب سياسية معينة، فهذا العام دعا الرئيس إيمانويل ماكرون رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ليكون ضيف شرف الاحتفالات.
وحسب بيان قصر الإليزيه، فإن وجود مودي ومشاركة القوات الهندية في العرض (العسكري) سيمثلان “مرحلة جديدة في الشراكة الاستراتيجية بين فرنسا والهند”. يأتي هذا في وقت ترى فيه فرنسا، كما دول غربية أخرى، حاجة لتطوير علاقاتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كجزء من التوازن الجيوسياسي في تلك المنطقة.
والعام الماضي، افتتح العرض العسكري بمشاركة كتلة دول أوروبا الشرقية، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا وتشيكيا وسلوفاكيا والمجر وبلغاريا ورومانيا، في إطار إبداء التضامن مع هذه الدول مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
Share this content:
اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.