تجتاح فرنسا حاليا موجة قيظ استثنائية لكونها جاءت متأخرة. وفي ظل تسجيل البلاد مزيدا من درجات الحرارة القياسية بالنسبة لهذه الفترة من العام، ومع إدراج 19 إقليما الأربعاء في حالة “التأهب الأحمر”، فإن هذه الظاهرة تأتي لتوجه ضربة جديدة للأنظمة البيئية ولصحة السكان التي سبق أن تأثرت أساسا خلال الصيف.
نشرت في:
9 دقائق
قالت هيئة الأرصاد الجوية في فرنسا الثلاثاء إن يوم الإثنين 21 أغسطس/آب كان “الأكثر حرارة على الإطلاق بعد 15 أغسطس/آب”. ومنذ 17 من نفس الشهر، اجتاحت البلاد موجة قيظ شديدة، تم على إثرها إدراج 15 إقليما إضافيا تقع بجنوب البلاد في حالة “التأهب الأحمر للقيظ”، تضاف إلى أربع مناطق كانت مدرجة على قائمة النقاط الأكثر سخونة.
وتعتبر موجة الحر الجديدة هذه استثنائية بسبب كونها جاءت خصوصا حادة ومتأخرة. فمنذ عام 1947 وبعد يوم 15 أغسطس/آب من كل عام، تم إحصاء ست موجات قيظ فحسب، كانت كلها في القرن الحادي والعشرين وتحديدا في سنوات (2001، 2009، 2011، 2012، 2016 و2017).
اقرأ أيضادرجات الحرارة قد تتجاوز الأربعين… فرنسا تستعد لـ”الفترة الأكثر سخونة” في 2023
في السياق، يرى عالم المناخ باسكال يو بأن “لا شيء استثنائي في موجة القيظ بحد ذاتها. ما يثير الدهشة هنا، هو تسجيل درجات حرارة مرتفعة بهذا الشكل خلال القسم الثاني من شهر أغسطس/آب”. يضيف نفس المتحدث: “عادة ما تسجل درجات الحرارة القياسية خلال الفترة ما بين 15 يوليو/تموز و15 أغسطس/آب، وليس بعدها”. وهو يعتبر أن هذا مؤشر على ظاهرة امتداد لفترات موجة القيظ بسبب الاضطراب المناخي.
كما تأتي موجة الحر الشديدة هذه بعد صيف شهد اندلاع المزيد من حرائق الغابات في ظل استمرار الجفاف، وهي تعد إذا ضربة إضافية للتنوع البيولوجي وأيضا لصحة الإنسان، ما يدفع السلطات إلى مضاعفة الإجراءات الاحترازية.
تفاقم مخاطر اندلاع حرائق الغابات
لعل أولى نتائج موجة القيظ الحالية هو ارتفاع مخاطر اندلاع حرائق الغابات وبشكل خاص بجنوب فرنسا. يوضح سيرج زاكا دكتور في علم المناخ الزراعي: “جاءت درجات الحرارة المرتفعة هذه في نهاية الدورة، أي في وقت تكون الأشجار قد ضعُفت من جراء ضغوط الموسم الصيفي. وفيما كان يجب أن تكون قادرة الآن على التنفس مجددا، ها هي تستمر في الجفاف، ومن ثمة تصبح قابلة للاشتعال بشكل أكبر”.
والثلاثاء، أدرجت هيئة الأرصاد الجوية الفرنسية (Météo-France) في النشرة اليومية لتوقعات الطقس الخاصة بالغابات والتي تصدرها لتنبيه السكان من خطر اندلاع الحرائق، سبعة أقاليم ضمن خانة المناطق المعرضة بشدة لخطر النيران. هذه الأقاليم هي “لي بوش دو رون، لا دروم، لو غارد، لا أوت كورسيكا، لي هيرولت، لو فار، وكذلك لو فوكلوز”. بناء على ذلك، تم إغلاق العديد من المناطق الغابية وخاصة في منطقة “بروفانس ألب كوت دازور” أمام الجمهور، كتدبير وقائي.
تحد غير مسبوق أمام الزراعة
يقول سيرج زاكا: “على غرار الغابات، تمثل هذه الفترة من السنة نهاية دورة أشجار الكرم وفواكه مختلفة كالتفاح، الإجاص، الخوخ، والكيوي. إنها اللحظة التي يبدأ فيها قطف العنب وجمعه”. يتابع عالم المناخ الزراعي: “لكن النباتات تعاني خلال هذه الفترة إن تخطت الحرارة 35 درجة مئوية”.
كما يوضح زاكا بأن المناطق التي تشهد درجات حرارة ما بين 42 و43 درجة مئوية محليا، مثل منطقة الرون، المعروفة خصوصا بزراعة الكروم والأشجار المثمرة، تعرف أيضا ظهور علامات الضعف على المحاصيل. يقول نفس المتحدث: “إن تعرض الأوراق (الأشجار) للشمس يحول لونها إلى البني، كما تحترق الثمار”، مضيفا: “من المبكر استخلاص النتائج لكن من الأكيد أنه سيكون هناك خسائر في العائدات”.
وحسب نفس الباحث، يمكن أن تطال موجة القيظ هذه أيضا نبات عباد الشمس والذرة. وبالنسبة لتربية الحيوانات، فإن أبقار الألبان وهي حساسة بشكل خاص لدرجات الحرارة العالية، يمكن أن تعاني من فقدان الحليب بنسب تتراوح ما بين 5 إلى 10 بالمئة.
يخلص سيرج زاكا: “الأمر المقلق بشكل أكبر هو أن هذا هو بمثابة الضربة الإضافية للمحاصيل والأنظمة البيئية بعد العام الكارثي في 2022 والعامين المعقدين 2020 و2021”. ويقول المختص أيضا: “مع كل ظاهرة مناخية متطرفة جديدة، تخرج (المحاصيل والأنظمة البيئية) أضعف أكثر”.
المحافظة على الماء بأي ثمن
يمكن لموجة القيظ هذه أن تؤدي أيضا إلى مفاقمة الجفاف الحالي. فوفقا لأحدث بيانات مكتب البحوث الجيولوجية والتعدين (BRGM) بفرنسا، فإن 72 بالمئة من مستويات المياه الجوفية كانت لا تزال أدنى من المعايير الموسمية الشهر الماضي. باتت نحو 90 بلدية حاليا في فرنسا محرومة من المياه الصالحة للشرب ما يعني أنها في حاجة إلى تزويدها بالمياه بواسطة شاحنات الصهاريج.
اقرأ أيضاموجات الحر الشديد ستتواصل في أغسطس وفق توقعات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية
لمواجهة هذه الأزمة، دعت الحكومة الإثنين خمسة عشر موقعا صناعيا إلى تقليص كمية المياه التي تسحبها مع دعم من الدولة. ومن المرجح أن يسمح هذا الإجراء المدمج عموما في خطة المياه الحكومية، بتقليل حجم السحب من المياه الجوفية والأنهار في فرنسا بنسبة 10 بالمئة بحلول 2030.
بالموازاة، أعلنت عدة أقاليم عن تعزيز القيود المفروضة على استخدام المياه، من ذلك: خفض عمليات سحب المياه الجوفية لأغراض زراعية، فرض قيود على الأنشطة البحرية، وحتى منع سقي الحدائق، المساحات الخضراء، ملاعب الغولف، وغسل السيارات.
المحطات النووية في حالة التأهب
في ظل موجة القيظ الحالية، أصدرت شركة كهرباء فرنسا “أو دي إف (EDF)” من جانبها نهاية الأسبوع الماضي، تنبيهات تخص محطة بوغي Bugey للطاقة النووية في إقليم آين Ain بجنوب البلاد. وعادة، تضخ المحطات مياه البحيرات والأنهار الواقعة بمحيطها لتبريد مفاعلاتها قبل إعادة إطلاقها في الطبيعة مجددا. لكن المشكلة هي أن هذه المياه التي يتم صرفها هي ساخنة. وعندما تكون درجة الحرارة الخارجية مرتفعة أصلا، فإن درجة حرارة الأنهار ترتفع بدورها، ومن ثمة فإن المياه التي يتم التخلص منها من المحطات النووية ستؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاحترار وستسبب تداعيات ضارة للتنوع البيولوجي.
تلزم التشريعات المعتمدة في فرنسا مشغلي محطات الطاقة النووية على احترام عتبات درجات الحرارة، وفي حال اقتضت الضرورة، الحد من إنتاجها. لكن ورغم إطلاقها لهذا التحذير، استبعدت شركة كهرباء فرنسا هذه المخاوف في الوقت الراهن.
جسم الإنسان تحت الاختبار
يمكن أن تضع موجة القيظ هذه التي جاءت أياما قليلة قبل انطلاق العام الدراسي، جسم الإنسان أيضا تحت الاختبار إن من الناجية الجسدية ولكن أيضا العقلية. في هذا الصدد، أوضح برونو ميغاربان رئيس وحدة الإنعاش بمستشفى “لاريبوازيير” في باريس: “حين ترتفع درجة الحرارة، ينبغي على جسم الإنسان بدوره أن ينجح في المحافظة على حرارة جسدية مستقرة عند حوالي 37 درجة مئوية”، يتابع نفس المصدر: “لذلك، فإن لدى جسمنا آليات لتنظيم درجة الحرارة، مثل العرق”.
لكن لدى بعض الأشخاص الأضعف مثل كبار السن، الأطفال، أو أولئك الذين يعانون على سبيل المثال من اضطرابات القلب والأوعية الدموية، فقد يتعرض أداء مثل هذه الآليات إلى الفشل، وهو ما قد يؤدي إلى خطر الإصابة بضربة الشمس أو ما هو أسوأ من ذلك، مثل ضربة الحرارة (حالة مرضية تنتج عن ارتفاع درجة حرارة الجسم). يلحظ أن أوروبا سبق وشهدت في 2022 وفاة ما لا يقل عن 62 ألف شخص بشكل “متسارع” جراء درجات الحرارة القياسية، منهم أكثر من خمسة آلاف شخص في فرنسا، حسب دراسة نشرت في مجلة “نايتشر ميديسين (Nature Medicine)” في يوليو/تموز 2023، أجريت بالتعاون مع المعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية في فرنسا Inserm.
يقول برونو ميغاربان: “لحسن الحظ، منذ موجة القيظ في 2003، أدركنا أهمية اتخاذ العديد من الإجراءات الاحترازية في مواجهة موجات الحرارة العالية هذه”، بينها: إنشاء جزر التبريد داخل المدن، تدابير استثنائية في دور رعاية المسنين، وتكييف دوام العمل أو حتى إلغاء بعض الأحداث المقررة في الهواء الطلق. يضيف نفس المصدر: “إلا أن هذه الموجة المتأخرة جاءت لتكشف لنا أنه ينبغي عدم التراخي في نهاية العطلة الصيفية وضرورة الاستعداد لتطبيق هذه التدابير في أي وقت كان”.
اقرأ أيضاالمرصد الأوروبي “كوبرنيكوس” يعلن تحطيم المحيطات رقما قياسيا جديدا في الحرارة السطحية
إلى جانب تأثيرها على الصحة الجسدية، يمكن أن يكون لموجة القيظ هذه تداعيات على الصحة العقلية. يقول رئيس وحدة الإنعاش بمستشفى “لاريبوازيير” في باريس: “تتسبب موجة القيظ في قلة النوم لدى الأفراد، ولها آثار ضارة على الذاكرة والتركيز”، ويوضح أيضا أنه “يضاف لذلك: القلق، الأفكار الطفيلية واضطرابات المزاج…”. وقد تتفاقم هذه الاضطرابات في ظل تكرار موجات القيظ وتزايد عددها وشدتها.
هذا، وحذرت اللجنة الاستشارية لعلوم المناخ التابعة للأمم المتحدة من أن ملايين الأشخاص سيشهدون 30 “يوم حر مميت” على الأقل سنويا بحلول 2080، حتى في حال تمكنت دول العالم من تحقيق هدف اتفاق باريس للمناخ بإبقاء سقف الاحترار أقل بكثير من درجتين مئويتين، وفق ما نقلته عنها وكالة الأنباء الفرنسية.
Share this content:
اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.