بلوشستان… إقليم مضطرب ينذر بتصاعد حدة التوتر بين إيران وباكستان

بلوشستان… إقليم مضطرب ينذر بتصاعد حدة التوتر بين إيران وباكستان


وسط تصاعد حدة التوترات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وما يثيره من احتمال تفجر الأوضاع بالمنطقة، تبادلت باكستان وإيران شن ضربات على أراضي بعضهما في تصعيد عسكري غير مسبوق بين الجارتين. تشترك الدولتان في حدود تمتد لنحو 900 كيلومتر، مع إقليم بلوشستان الباكستاني من جهة، وإقليم سيستان-بلوشستان الإيراني من جهة أخرى. وتقاتل الدولتان منذ فترة طويلة مسلحين في منطقة بلوش المضطربة على طول الحدود. وبالرغم من محاربة البلدين “عدوا انفصاليا مشتركا”، فمن غير المعتاد أن يهاجم أحدهما مسلحين على أراضي الطرف الآخر. 

على الرغم من أن الحدود الباكستانية الإيرانية شهدت اندلاع أعمال عنف من حين لآخر في السنوات الأخيرة، فإن الهجمات المتبادلة بين البلدين هذا الأسبوع تأتي وسط مخاوف متزايدة بشأن تدهور الوضع الأمني في منطقة الشرق الأوسط في ظل تواصل الحرب بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة الفلسطيني.

خلال الأسبوع الماضي، نفذت الولايات المتحدة عدة ضربات ضد الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، ردا على مهاجمتهم السفن في البحر الأحمر، وفي الوقت نفسه، هاجمت إيران أهدافا في العراق وسوريا.

لكن الضربات الإيرانية الأخيرة استهدفت جماعات مسلحة تشكل في المقام الأول تحديا محليا وتسعى إلى تحقيق أهداف إقليمية محدودة.

قالت باكستان إن ضرباتها في إقليم سيستان-بلوشستان جنوب شرق إيران استهدفت أعضاء في جيش تحرير بلوشستان الانفصالي وجبهة تحرير بلوشستان، اللذان يعتبران نفسيهما ممثلان لمجتمع البلوش الذي يعيش في مناطق متفرقة من أراضيها وفي إيران وأفغانستان.

خارطة تبين مناطق وجود البلوش في كل من باكستان وإيران وأفغانستان. © استوديو غرافيك فرانس ميديا موند

من جهة أخرى، أكدت إيران الثلاثاء أنها استهدفت عناصر من “جيش العدل” في باكستان، الجماعة السنية التي تعتبر نفسها أيضا جماعة انفصالية بلوشية.

من هم البلوش؟ 

تعد محافظة سيستان بلوشستان في جنوب شرق إيران، وإقليم بلوشستان في غرب باكستان، من أكثر المناطق فقرا في البلدين، وتشكل بلوشستان موطنا لمجموعة البلوش الذين يقدر عددهم الإجمالي بعشرة ملايين نسمة، تعيش غالبيتهم في باكستان بما في ذلك إقليم السند، مع وجود ملايين عدة في إيران وأقلية أصغر بكثير في أفغانستان.

لطالما كانت علاقة إيران وباكستان قوية جدا منذ تأسيس الأخيرة سنة 1948، إذ يرى محللون أن ما يجمعهما أكثر بكثير مما يفرقهما، لكن المشكل الأكبر تاريخيا وفق الصحافي المختص في الشأن الباكستاني فؤاد أحمد هو العرقية البلوشية المنتشرة بين البلدين، إذ يسعى بلوش باكستان، وعلى رأسهم “جيش العدل” لتحرير إقليم سيستان بلوشستان الإيراني، وهو ما يفسر هجماتهم المنتظمة منذ نحو 30 سنة، من خلال الإغارة على قوى الأمن المتمركزة على الحدود.

في المقابل، يشن البلوش المتمركزون في إيران هجمات أيضا على الإقليم الباكستاني قصد تحريره.

صراع طويل الأمد

مبتدأ شرارة الخلاف شن إيران ضربات على مقاطعة بلوشستان الباكستانية، مما أسفر عن مقتل طفلين وإصابة عدة آخرين، وفقا للسلطات الباكستانية.

طهران قالت إنها “استهدفت الإرهابيين الإيرانيين فقط على الأراضي الباكستانية” ولم يتم استهداف أي مواطن باكستاني.

وقال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان: “استهدفنا مجموعة تسمى جيش العدل… والتي لجأت إلى أجزاء من باكستان”.

خلف الهجوم غضبا عارما في باكستان التي وصفت الهجوم بأنه “انتهاك فاضح للقانون الدولي وروح العلاقات الثنائية بين باكستان وإيران”.

من جهتها، نقلت وكالة تسنيم الإيرانية للأنباء التابعة للدولة أن الجيش الإيراني استهدف معاقل جماعة “جيش العدل” السنية المتشددة.

عقب ذلك، ردت باكستان بعد يومين بما وصفته “سلسلة من الضربات العسكرية الدقيقة والمنسقة للغاية” على عدة مخابئ للانفصاليين المزعومين في سيستان وبلوشستان.

وقالت وزارة الخارجية الباكستانية، لدى إعلانها عن الضربات الخميس، إن عددا من المسلحين قتلوا.

الاشتباكات المميتة التي تخوضها باكستان وإيران ضد الانفصاليين الذين ينشطون على جانبي حدود كل منهما ليست وليدة اليوم، ولكنها تعود لسنوات طوال، آخر تجلياتها قبل هجوم الأسبوع الجاري، ما حدث شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، حين اتهمت إيران مسلحي “جيش العدل” باقتحام مركز للشرطة في سيستان وبلوشستان، مما أدى إلى مقتل 11 ضابط شرطة إيراني، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية تسنيم.

على الرغم من ذلك، فإن لدى إيران وباكستان علاقات ودية وإن كانت معقدة. ولعل آخر مظاهر ذلك اجتماع وزراء البلدين في دافوس الأسبوع الجاري وإجراء قواتهما البحرية مناورات مشتركة في مضيق هرمز والخليج.

على صعيد آخر، لدى البلدين مخاوف مماثلة بشأن المنطقة الحدودية التي ينعدم فيها القانون، وحيث ينشط مهربو المخدرات والجماعات البلوشية المسلحة بشكل كبير. بعد الضربات المتبادلة، بدا كل جانب حريصا على التأكيد على أن ما حدث لا يمثل هجمات على جار شقيق.

صورت كل من إيران وباكستان لسنوات التمرد في المنطقة الحدودية على أنه مدعوم من الخارج، جزئيا على الأقل. فبينما اتهمت إسلام أباد طهران بغض النظر عن المسلحين الذين ينشطون من إيران، قال مسؤولون إيرانيون في الماضي إن جيش العدل يختبئ في باكستان ويتلقى دعما إسرائيليا.

وبعيدا عن تقاذف التهم بين البلدين، لم يسبق الضربات الإيرانية هذا الأسبوع أي سبب واضح أو هجوم انفصالي كبير. لكن مراقبين يرون أنه وسط التقلبات المتزايدة في الشرق الأوسط، قد تكون طهران رجحت أن هذه كانت لحظة مناسبة لضرب المسلحين الذين هددت منذ فترة طويلة باستهدافهم ما لم تتحرك باكستان بنفسها.

سعيا لتجنب تطور الوضع نحو الأسوأ، حثت كل من روسيا وواشنطن جميع أطراف التوتر القائم على ضبط النفس.

“مفاجأة غير مسبوقة”

شكلت الضربة التي استهدفت باكستان واحدة من سلسلة هجمات إيرانية نفذتها طهران مؤخرا، إذ تأتي في نفس اليوم الذي أعلن فيه الحرس الثوري إطلاق صواريخ على إقليم كردستان العراق، مستهدفا ما سماه “مقر التجسس” لوكالة المخابرات الإسرائيلية الموساد. فيما نفى مسؤولون عراقيون وأكراد هذه المزاعم.

الحرس الثوري قال أيضا إنه أطلق صواريخ في سوريا، زاعما أنها أصابت “القادة والعملاء الرئيسيين” المسؤولين عن انفجارين وقعا هذا شهر كانون الثاني/يناير الجاري في مدينة كرمان الإيرانية أسفرا عن مقتل ما لا يقل عن 95 شخصا، وهو هجوم أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مسؤوليته عنه.

عبد الكريم شاه، مدير مركز إسلام أباد للدراسات السياسية يرى أن رد الفعل الإيراني شكل مفاجأة غير مسبوقة، مضيفا أن شكاوى بشأن هجمات البلوش من طرف الجانبين كانت محل دراسة وبحث منذ فترة طويلة، وقد عمل البلدان على التوصل إلى حلول سلمية بشأنها.

في هذا السياق، كشف شاه أن البلدين شكلا لجانا تضم ضباطا من الحرس الثوري الإيراني، وعناصر من الاستخبارات العسكرية الباكستانية زارت طهران الأسبوع الماضي إذ كان الطرفان على وشك التوصل إلى اتفاق مشترك يقضي بالسماح بتشديد الرقابة على الحدود وتبادل المعلومات بخصوص ذلك.

من جهته، يقول الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط مارك غوتالييه، إن هذه أيضا هي المرة الأولى التي تضرب فيها باكستان إيران، ويؤكد أنه ليست لدى البلدين مصلحة في مواجهة بعضهما البعض، خاصة في الوقت الحالي. لكنه أوضح أنه لا يمكن استبعاد خطر التصعيد نظرا للوضع الإقليمي المتقلب.

يضيف غوتالييه أن أولوية إيران حاليا تتركز في الشرق الأوسط مع ما يحدث في غزة واليمن. وأن أي صراع مع باكستان سيكون في نهاية المطاف دخيلا وزائدا. وهذا ليس في مصلحة إيران، خاصة وأن الأمر لا يشكل تهديدا أمنيا كبيرا لمصالحها.

بالنسبة للجانب الباكستاني، كان لا بد من الرد على ما اعتبره استفزازا إيرانيا، وسط مناخ اقتراب إجراء الانتخابات التشريعية، ما يجعل الوضع الداخلي متوترا للغاية. يقول غوتالييه قبل أن يوضح أن “التهديد الأمني ​​الرئيسي للباكستانيين يكمن في الهند وأفغانستان، لكن كان لا بد من الرد على إيران، كما فعلت باكستان ذلك بكل صراحة وبسرعة”.

بالنسبة للمتحدث فإن “التصعيد ليس هو السيناريو المرجح”. لكنه يستدرك قائلا “مرة أخرى، لا يمكننا استبعاد ذلك لأن الوضع يتغير”.

“جيش العدل”

تأسس “جيش العدل” في السنوات الأولى من العقد الماضي بعد تفكك تنظيم “جند الله” الذي نفذ لسنوات هجمات ضد قوات الأمن الإيرانية، لكن وتيرة أعماله تراجعت منذ أن أعدمت إيران قائد التنظيم عبد الملك ريغي في العام 2010 إثر اعتقاله.

وتشير تقارير لوسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، إلى أن عبد الملك ريغي اعتقل في عملية في شباط/فبراير 2010 عندما أجبرت طائرات مقاتلة إيرانية طائرة ركاب كان مسافرا على متنها إلى قرغيزستان، على الهبوط في إيران. وأُعدم شنقا في حزيران/يونيو 2010.

لطالما اشتكى الناشطون من أن المنطقة تعرضت لتمييز اقتصادي وسياسي من السلطات الإيرانية التي أعدمت أعدادا كبيرة من البلوش، بتهم عدة أبرزها تهريب المخدرات.

وفي انعكاس للفقر الذي يسود المنطقة، يعمل عدد كبير من البلوش في شاحنات نقل الوقود. ويقومون بتهريب المحروقات عبر الحدود إلى باكستان حيث يمكن بيعه بسعر أعلى.

على الجانب الباكستاني، يشكو البلوش من أنهم محرومون من حقوقهم، ومن عدم إنفاق الإيرادات المتأتية من الموارد الطبيعية بشكل ملائم على الإدارة المحلية والاحتياجات الاجتماعية.

إذا كان عبد الكريم شاه يستبعد التصعيد العسكري نظرا لمتانة العلاقة بين البلدين وللمصالح المشتركة بينهما، ويرجح استئناف العمل على إيجاد حل وفق حلول سلمية، فإن الأمر ليس كذلك وفق المحللة السياسية الباكستانية فرح خان، التي ترى أن التوتر الأخير يأتي قبل نحو ثلاثة أسابيع من الانتخابات التشريعية المرتقبة في 8 شباط/فبراير 2023 والتي يعد رئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف من أبرز الأسماء المرشحة فيها، ما قد يدفع في اتجاه المزيد من التصعيد، نظرا لأن السياسي العائد من منفاه الاختياري بلندن لا تجمعه علاقات ودية مع إيران، ويمكن أن يصطف بقوة إلى جانب المعسكر الأمريكي، حسب خان.

 

حمزة حبحوب

Share this content:


اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading