بحارة تركوا على متن سفن متهالكة بلا طعام أو ماء أو أجور… بحارة ناقلة بضائع تدعى “إيست إكسبرس” أكدوا لفريق تحرير مراقبون فرانس 24 أن أوضاعهم باتت مأساوية بعد تخلي أصحاب الناقلة عنهم في ميناء مصراتة الليبي. يكشف الجزء الأول من هذا التحقيق الذي أنجز بالتعاون مع مشروع “سراج” الاستقصائي المستقل السوري عن شبكة معقدة من الشركات الوهمية تستخدمها مجموعة من مالكي السفن الرومانيين-السوريين للتهرّب من النزاعات القانونية والعقوبات الغربية.
عندما رست سفينة الشحن “إيست إكسبرس” (رقم المعّرف الخاص -IMO 8215754)، وهي سفينة شحن عامة يبلغ طولها 97 مترًا وترفع علم توغو، في ميناء مصراتة الليبي في 18 يناير/كانون الثاني 2022، اعتقد طاقمها أنهم سيفرغون حمولتهم من السكر ويواصلون رحلتهم إلى بدلٍ آخر كالمعتاد. لكن سلطات الميناء أعلنت أن السكر غير صالح للاستهلاك واحتجزت السفينة. الطاقم عالق هناك منذ ذلك الحين… عامان وما زال العد متواصلاً.
كانت هذه العقبة القانونية التي مُنع بموجبها تسليم الحمولة لتاجرٍ ينتظرها في ليبيا، السببَ الوحيد الذي دفع مالك الناقلة للتخلي بشكل كاملٍ عن اثني عشر بحارا، عشرة سوريين ومصرّيٌ وهندّي، كانوا يعملون لصالحه على متنها.
“ليس لدينا طعام، ولا ماء، و لا مستحقات!”
الباخرة “إيست اكسبرس” هي سفينة شحن، صُنعت في ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1983، يبلغ طولها 97 مترًا وقادرة على نقل حمولات يبلغ وزنها ما يزيد عن 5,7 ألف طنٍ من البضائع والوقود والحصى.
يقول عمار الشيخة، أحد أفراد طاقم الناقلة “إيست إكسبرس”: “بالنسبة إلي، ‘التخلي’ يعني أن نكون بحاجة إلى الطعام والمشروبات والضروريات اليومية، بسبب عدم القدرة على الحصول عليها من مالكي ومديري السفينة”.
في تسجيل مصور أرسله لفريق التحقيق في أيلول/سبتمبر 2023 أخبرنا أنه “تم التخلي عنّا كلياً من قبل الشركة”. مضيفاً “ليس لدينا طعام، ولا ماء، و لا رواتب!”
تم التخلي عنّا كلياً من قبل الشركة”. مضيفاً “ليس لدينا طعام، ولا ماء، و لا رواتب!
اتصل عمار وأفرادٌ آخرون من الطاقم بــ ITF seafarers، إحدى نقابات عمال البحر والتي من المفترض أن تقدم المساعدة لأطقم السفن المهجورة، لكنهم لم يتلقوا أي رد لأشهر.
الخبير في القانون البحري الدولي إيان رالب قال لنا:
“التخلي” هو أن يقوم مالك السفينة بتنازله رسميًا عن مسؤولياته تجاه السفينة وطاقمها. ويعني هذا أن المالك تخلى عن مسؤولياته المتعلقة بتأمين الاحتياجات الأساسية مثل الوقود والطعام والماء”. ويضيف: أنه عندما يواجه أصحاب السفن نزاعات قانونية، غالباً ما يكون “التخلي” عن السفينة والحمولة وطاقمها، أسهل وأرخص خياراتهم.
مع نفاد الوقود وانقطاع الكهرباء عن الباخرة أصبح العيش على متنها أمراً لا يطاق.
يروي عمار:
بدأنا نعاني من نقص الطعام والمال… نقضي معظم أوقاتنا إما نائمين أو على هواتفنا المحمولة. هذا هو المنفذ الوحيد. نتحدث مع عائلاتنا وأصدقائنا حتى ينتهي اليوم.
لم يتلق طاقم “إيست إكسبرس” أياًّ من مستحقاته منذ كانون الثاني/ يناير 2023، حيث يعتقد معظمهم أن البقاء على متن السفينة هو السبيل الوحيد للحصول على أموالهم. يقول عمار أنّ الشركة التي يعتقد أنها مملوكة لعدة أشخاص مَدينةٌ له بنحو 17 ألف دولارٍ أمريكي.
عندما رست الناقلة في ميناء مصراتة، كان علمها يشير إلى أنها مسجّلة في توغو في غرب أفريقيا في حين تشير السجلات البحرية المتاحة للعامة كـMarine Traffic وEQUASIS إلى أنها كانت مملوكة لشركة Mina Shipping Ltd ومقرها رومانيا.
عندما اتصلنا بالرقم المدون في تسجيل الشركة في رومانيا، قالت لنا سيدة قدمت نفسها على أنها موظفة سابقة “أن شركة Mina Shipping هي شركة ‘أوف شور’ وأن المالك قد توفي لا أعرف.. قبل سنتين أو ثلاث، على ما أعتقد”.
أخبر أحد أفراد الطاقم فريق التحقيق، أن الناقلة تتبع شركة اسمها “Mina Shipping“ التي يملكها رجل الأعمال السوري سمير فحل، والذي ينحدر من مدينة طرطوس الساحلية، حسب قوله.
منشورات عائلية على صفحة فحل في فيس بوك تؤكد أنه توفي ولكن في شباط/ فبراير 2023.
أسماء وحيوات سابقة
صفحة سمير الفحل على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك تشير إلى أنه كان يعمل في مجال “نقل البضائع” في مدينة كونستانزا الرومانية.
يتميز نشاط فحل على وسائل التواصل الاجتماعي بمشاركاته المنتظمة لصور سفن من شتى الأنواع. إحدى هذه الصور من العام 2016 لفتت انتباهنا بشكل خاص: “نادالينا“
أظهرت عملية البحث عن هذه السفينة باستخدام الرقم المعّرف الخاص IMO (لكل سفينة رقم تعريف فريد صادر عن المنظمة البحرية الدولية المعروفة اختصاراً بـ IMO) أن ناقلة “نادالينا” هي نفسها “إيست إكسبريس”، المٌتخلى عنها في مصراتة.
لا يغير مالكو السفن أسماء ناقلاتهم فحسب، بل يغيرون أيضًا البلدان المسجلة فيها والشركات التي تديرها وتمتلكها. يقول محللون على اطلاع بصناعة نقل البضائع العالمية إن هيكل الملكية المعقد يجعل من السهل على مالكي السفن ومشغليها حماية أنفسهم عندما تواجه السفينة مشاكل قانونية أو مالية.
يقول إيان رالبي:”أحيانا، من الأفضل التخلي عن أصل ما، بدل الاحتفاظ به وتحمل المسؤولية”
تعقب الـ “نادالينا”: تاريخ حافل بانتهاكات للعقوبات الغربية
يتعين على السفن بث إشارات AIS (نظام تحديد الهوية الآلي)، الهدفُ منها ضمان سلامة الحركة الملاحية، حيثُ تشارك مواقعُ كـ MarineTraffic هذه الإشارات للسماح بمعرفة إحداثيات موقع هذه السفن وتعقبها بشكلٍ آني.
استخدم فريق التحرير بيانات زودنا بها الموقع -2920 إشارة يومية بثتها الناقلة على مدى ثمانية أعوام- لإنشاء خارطة تسمح بتتبع مسار الـ “نادالينا” بين عامي 2016 و 2023.
أجرت السفينة رحلات منتظمة عبر البحر الأبيض المتوسط، إلى تونس وليبيا وميناء طرطوس السوري تحت إدارة روسية، عبر البحر الأسود مروراً بتركيا، ذهابًا وإيابًا من ميناء كونستانزا في رومانيا.
حظرت أوكرانيا ناقلات البضائع الدولية من الرسو في موانئ شبه جزيرة القرم بعد قيام روسيا بضمها في عام 2014. احتلالٌ اعتبرته أوكرانيا آنذاك غير قانوني، ما دفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى فرض حظر مماثل.
منذ ذلك الحين، توثق مواقعُ إخبارية عدة ، دولية وأوكرانية، انتهاكات السفن وناقلات البضائع للعقوبات الأوروبية في شبه جزيرة القرم.
كاترينا ياريسكو، وهي محققة تعمل لصالح مشروع “سي كرايم” التابع لموقع “ميروت فوريتس” الاستقصائي، عملت مطولاً على توثيق انتهاكات سفينة الـ “نادالينا”.
تمكن فريق كاترينا من الحصول على صور تظهر الناقلة وهي ترسو بشكل غير قانوني في أحد موانئ القرم، وأخرى تظهرها وهي تُحمّل بشحنات من المعدن أو الخردة أو الحبوب.
فريق كاترينا وموقع black sea news الاستقصائي المستقل في أوكرانيا يجمعان على أن الناقلة “نادالينا” جزءٌ من أسطول كانت تديره شركة Bia Shipping Co.
إحدى الوثائق الصادرة باللغة الروسية عن موقع “Sea Web” للتغطية الملاحية أظهرت أن معلومات جهات الاتصال التابعة لشركة Bia Shipping تحتوي على اللاحق “joharshipping.ro” الذي يبدو أنه تابع لإحدى المواقع الإلكترونية المسجلة في رومانيا.
في حين لم يعد موقع “joharshipping.ro” متاحاً على الانترنت، تمكنا من استعادة نسخٍ قديمة عبر استخدام إحدى أرشفة الويب.
ويدرج الموقع اسم رجل يدعى “عدنان حسن” تم تقديمه على أنه المدير الإداري واسم أخيه جوهر حسن، مسؤول العمليات العامة.
يظهر أرشيف الصفحة الرئيسية للموقع أنه كان يتبع لشركة Johar Shipping. كما تبين أنه يدرج خمساً على الأقل من السفن التي كانت تديرها شركة Bia Shipping.
عثر الفريق على نسخة مؤرشفة من موقع آخر لشركة أخرى تدعى “Johar.ro“، هو الآخر لم يعد متاحاً على الإنترنت لكن نسخاً مؤرشفة منه أدرجت أيضاً اسم عدنان وجوهر حسن كمدير ومسؤول عن العمليات العامة.
العائلتان ترد على أسئلتنا
لقد حاولنا مرارًا وتكرارًا الاتصال بالشركات المرتبطة بالأخوين حسن والسيد فاحيل، باستخدام جميع عناوين البريد الإلكتروني وأرقام الهواتف التي تمكنا من العثور عليها.
أخبرتنا ابنة السيد فاحيل أنه وبعد وفاته ظلت الأسرة مسؤولة عن EAST EXPRESS. قالت إنه تم تعيين أحد أفراد الأسرة لإدارة شؤون الناقلة ووعدتنا بإجراء مقابلة لكنها لم تعادو الاتصال قط. أعطتنا عنوان بريد إلكتروني قالت إنه لشركة العائلة Mina Shipping، لكنها أحداً لم يرد على أسئلتنا.
أكد لنا عدنان حسن في سلسلة مقابلات هاتفية أنه وشقيقه جوهر كانا يملكان شركة Johar Shipping. وقال إن شركتهما عملت كوكيل للناقلة إيست إكسبريس في مناسبة واحدة على الأقل خلال الفترة من 2015 إلى 2019 عندما كانت تعرف باسم نادالينا، أي عندما زارت موانئ شبه جزيرة القرم “المغلقة”. أوضح عدنان أنهم غير ملمين بالأمور السياسية ولم يكونوا على علم بفرض عقوبات على موانئ القرم، وأن جميع زيارات نادالينا والسفن الأخرى التي تعاملوا معها إلى شبه جزيرة القرم توقفت بعد أن حققت السلطات الرومانية مع شركة Johar Shipping.
كانت الحكومة الرومانية على علم بنشاط السفينة نادالينا، حيث أخبرت وزارة الخارجية الرومانية في معرض ردّها على فريق التحقيق، أنها حققت في زيارات سفينة “نادالينا” المتكررة إلى القرم والحوالات المالية التي قامت بها شركات مرتبطة بالناقلة. “السلطات المختصة استنتجت أنه ما من أدلة كافية تثبت أن هذه المدفوعات تمثل خرقاً للحظر. في المقابل، نوهت السلطات الرومانية إلى أنها وجهت “تحذيراً لمشغلي السفينة من مخاطر خرق القيود المفروضة بعد ضم روسيا للقرم” وأن رومانيا “تدين بقوة حرب روسيا العدوانية ضد أوكرانيا”.
فيما يتعلق بوضع السفينة الحالي، إيست إكسبريس، ومحنة طاقمها المستمرة في ليبيا، قال عدنان حسن إن السفينة مملوكة لشركة سمير فحل أي Mina Shipping. وأضاف إنه صديق عزيز للسيد فحل حيث لم تجمعهما علاقة عمل معه أو مع Mina Shipping.
أوضح عدنان إن عائلة سمير فحل اتصلت به بعد سبعة أشهر من وفاة الأخير. قال لنا: “أردت أن أساعد العائلة بإطلاق سراح السفينة… لكنني علمت أن الديون المتراكمة عليها أكبر من قيمتها… قلت للطاقم: لن أدفع أجوركم إلا إذا غادرت السفينة الميناء وتمكنت من تجربتها.فقط حينها، ستحصلون على مستحقاتهم. مجرد مساعدة للعائلة.
أربعة من أفراد الطاقم عادوا إلى وطنهم، سبعة لا يزالون قابعين على متن الناقلة
أخبرنا الطاقم أنهم تلقوا دفعات صغيرة من السيد فحل قبل وفاته ولكنهم لم يتلقوا رواتبهم كاملة.
بعد أن اتصل الفريق باتحاد البحارة الدولي ITF للاستفسار عن مصير هؤلاء البحارة، أخبرنا الشيخة في اليوم التالي، أن الاتحاد وافق على إرسال بعض الأموال له لشراء تذاكر طيران للعودة إلى سوريا. “سبحان الله عندي غصة في القلب. بعد عناء سنتين، أعود لأهلي، وعائلتي وأولادي، بدون أي مرتب”. يقول الشيخة في رسالة مسجلة أرسلها لنا من المطار وهو يهم بركوب طائرة العودة إلى سوريا.
حتى كتابة هذه السطور، عاد عماد مع ثلاثة من أفراد الطاقم إلى وطنه وأسرته، في حين لا يزال 7 من رفاقهم قابعين على متن الباخرة.
Share this content:
اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.