تفتتح الخميس بمدينة سانت بطرسبورغ الروسية القمة المشتركة بين روسيا وأفريقيا بهدف تعزيز الشراكة الاقتصادية بين الطرفين. وستستغرق يومين كاملين (الخميس والجمعة) سيبحث فيها المشاركون (بعض رؤساء أفريقيا وفلاديمير بوتين) سبل تعزيز الشراكة الاقتصادية والتجارية بينهما. لكن هل تملك روسيا القوة المالية الاقتصادية الكافية للعب أدوار هامة في القارة السمراء خاصة في ظل التنافس الصيني والأوروبي؟ فرانس24 تشرح لكم أهم أهداف ورهانات هذه القمة الاستراتيجية.
“حدث هام” هكذا وصفت القمة الثانية التي تجمع الخميس روسيا بدول أفريقيا بمدينة سانت بطرسبورغ والتي تهدف إلى تعزيز الشراكة الاقتصادية والسياسية بين الطرفين. وسيدوم هذا الحدث “الهام” في نظر موسكو حتى مساء يوم الجمعة. وهي القمة الثانية التي تنظمها روسيا بعد تلك التي جرت في 2019 بمدينة سوتشي، فيما يراد منها تقوية الشراكة بين الجانبين في المجال السياسي والأمني والاقتصادي والعلمي.
وتجدر الإشارة إلى أن المسائل “الإنسانية” ستكون حاضرة هي الأخرى وللمرة الأولى خلال هذه القمة التي تسعى موسكو من خلالها إلى تنويع وتمتين شراكتها الاقتصادية مع القارة الأفريقية وجعلها “طويلة الأمد”.
ولإنجاحها والخروج بنتائج ملموسة، شرعت موسكو منذ عدة شهور في نشر رسائل دعم للدول الأفريقية وبعثاتها الدبلوماسية المتواجدة في موسكو. فيما كثف سيرغاي لافروف، وزير الخارجية الروسي من زياراته للعواصم الأفريقية لكسب دعمها. وتأتي هذه الجهود الدبلوماسية الروسية في وقت تأججت فيه الحرب مع أوكرانيا وازدادت حدتها مع ازدياد حجم المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا.
اقرأ أيضاجمهورية أفريقيا الوسطى: النفوذ الروسي
لكن وراء الخطابات والزيارات، هناك حقيقة خفية تبين مدى ضعف التبادلات التجارية بين موسكو والدول الأفريقية وتطرح تساؤلات حول قدرة روسيا بالوفاء بالتزاماتها تجاه القارة السمراء في وقت أصبح اقتصادها يعاني من العقوبات الغربية وفي ظل عدم بروز أي حل سياسي في الأفق فيما يتعلق بإنهاء الحرب على أوكرانيا.
دبلوماسية الأسلحة
ومن بين ميادين الشراكة التي تريد روسيا تعزيزها مع القارة الأفريقية، يمكن ذكر قطاع التسليح. وسبق لموسكو أن أعلنت مرارا خلال السنوات الماضية عن نيتها وعزيمتها في تعزيز الشراكة العسكرية مع العديد من دول القارة السمراء بما في ذلك الكاميرون وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وحتى مالي التي استقدمت إلى أراضيها عناصر مجموعة “فاغنر” قائلة إنها ستساعدها على نشر الأمن ومحاربة الإرهاب.
هذه الاتفاقيات ليست بالجديدة والدليل على ذلك ففي زمن الاتحاد السوفياتي، استثمرت موسكو في مجال بيع الأسلحة لصالح الكثير من الدول الأفريقية.
ومع تراجع الشراكة بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، سعت روسيا منذ عقدين من الزمن إلى إعادة تفعيلها وتنشيطها من جديد. كما قامت أيضا مجموعة “فاغنر” العسكرية وبالتوازي مع ذلك، بتوسيع رقعة تواجدها وتأثيرها في كل من أفريقيا الوسطى ومالي والسودان وحتى ليبيا.
هذا، وبين 2018 و2022، تجاوزت روسيا الصين من حيث صادرات الأسلحة إلى دول جنوب صحراء أفريقيا وفق المعهد الدولي للبحث عن السلام المتواجد في ستوكهولم، لترتفع من 21 بالمئة إلى 26 بالمئة.
لكن ومع ذلك، أظهر نفس التقرير أن مبيعات روسيا العسكرية لا تمثل سوى حصة صغيرة (12 بالمئة في 2022) من الحجم الإجمالي لمبيعات الأسلحة التي عرفت تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة وبالتزامن أيضا مع الحرب في أوكرانيا.
اقرأ أيضامتحدث باسم الجيش في مالي يعلن وصول جنود روس إلى بلاده بعد انسحاب القوات الفرنسية
ويقول جوليان فيركاي، الاقتصادي المتخصص في الشؤون الروسية ونائب رئيس معهد اللغات والحضارات الشرقية بجامعة السوربون بباريس أن “الصادرات العسكرية الروسية إلى أفريقيا لم تكن كبيرة سواء كان من ناحية التكنولوجيا أو من حيث إيرادات العملة الصعبة، بالرغم من أنها تشكل إحدى وسائل النفوذ الروسي في المنطقة”.
هذا التحليل يتقاسمه أيضا مكسيم ريكار، الباحث والمتخصص في شؤون دول غرب أفريقيا بمعهد للبحوث الاستراتيجية بالمدرسة العسكرية بفرنسا والذي قال: “على المستوى الروسي، لا تزال الصادرات العسكرية ضعيفة نسبيا لكنها في نفس الوقت مهمة كونها تكتسي أهمية استراتيجية بالغة وهي أداة من أدوات التأثير السياسي الروسي على دول أفريقيا”.
وتكتسي الصادرات العسكرية الروسية أهمية بالغة كونها تشارك في تعزيز وتقوية الأنظمة القمعية في القارة الأفريقية والنخب السياسية التي لا تبالي كثيرا بقضايا حقوق الإنسان، لا سيما في بعض البلدان مثل بوركينا فاسو ومالي اللتين تنظران إلى الشراكة العسكرية مع موسكو على أنها رهان كبير خاصة بعد طلب هذه البلدان من فرنسا سحب قواتها العسكرية من أراضيها.
وفي هذا السياق، تابعت كل من مالي وبوركينا فاسو عملية التمرد التي قام بها زعيم مجموعة “فاغنر” العسكرية يفغيني بريغوجين في نهاية شهر يونيو/ تموز الماضي بقلق كبير وكانت هذه العملية محل اهتمام واسع من قبل البلدين. ما جعل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يطمئن باماكو وواغادوغو بأن العمل الذي يقوم به مدربو “فاغنر” لديهما “سيستمر”.
معركة الحبوب
وبالإضافة إلى المجال الأمني، تقيم روسيا أيضا شراكة مهمة في المجال الزراعي مع القارة الأفريقية وتعتبر من الدول الأولى التي تصدر القمح للقارة.
لكن تجدر الإشارة إلى أن القمة الروسية الأفريقية تجري في وقت قررت فيه موسكو الانسحاب من الاتفاق الذي يسمح بتصدير القمح الأوكراني عبر البحر الأسود والذي تعتبره الأمم المتحدة مهما جدا كونه يحافظ على التوازن في الأسعار ويمنع وقوع أزمة غذائية عالمية.
وتطالب روسيا الدول الغربية بتخفيف العقوبات المالية المسلطة عليها والتي “تعرقل” حسبها تجارتها الدولية في مجال بيع الحبوب وصادراتها للعتاد الفلاحي والأسمدة.
اقرأ أيضاماكرون يتهم روسيا بزعزعة استقرار إفريقيا
بالمقابل، أكدت بأنها مستعدة لتوفير الحبوب مجانا للدول الأفريقية الأكثر احتياجا، موضحة أن هذا الاقتراح سيتم التطرق إليه خلال قمة سانت بطرسبورغ التي ستناقش أيضا مسألة السيادة الغذائية لأفريقيا.
وفي هذا الشأن، أكد أداما غاي، الصحافي السنغالي والمتخصص في العلاقات الدولية أن “واردات القمح تطرح مشكلة إيديولوجية بالنسبة لأفريقيا لأنه ليس من المقبول أن تعتمد (دول القارة الأفريقية) على دول أخرى من أجل إطعام شعوبها وذلك بعد مرور ستين عاما على استقلال غالبية هذه الدول”.
وأضاف: “في حال أرادت روسيا بناء شراكات طويلة الأمد مع القارة السمراء، فعليها قبل كل شيء أن تدعم سيادتها الغذائية وتساعدها على إنتاج الأسمدة والحبوب وبناء مصانع وتوفير العتاد الفلاحي الضروري لإنتاج المحاصيل”.
مجالات شراكة متنوعة
هذا، وكان الكرملين قد نشر في 23 يوليو/حزيران، أي قبل بضعة أيام فقط من افتتاح القمة، رسالة للرئيس الروسي لخص فيها “المحاور الأساسية في مجال الشراكة” بين الطرفين.
فيما أكد فلاديمير بوتين على عزمه في “تكثيف” العمل بمجالات عديدة بما فيها المجال التكنولوجي والطاقة والاستكشاف الجيولوجي، إضافة إلى النووي والصناعات الكيمياوية واستثمار المناجم والمواصلات، واعدا أيضا بـ”توسيع شبكة السفارات والمكاتب التجارية” الروسية في أفريقيا.
ومن بين المشاريع الكبرى التي أطلقتها روسيا في السنوات القليلة الأخيرة، مشروع الاستثمار والبحث عن الغاز في البحر بالموزمبيق من قبل شركة روسنفت أو مشاريع بناء محطات نووية من قبل شركة روزاتوم في كل من جنوب أفريقيا ومصر.
وبالنسبة للصحافي السنغالي أداما غاي، “إمكانيات توقيع شراكات بين روسيا والقارة الأفريقية متعددة”، موضحا أن “أفريقيا تحتاج إلى تمويلات مشتركة في مجال الطاقة والبتروكيماوية والبنية التحتية والأمن السيبراني. فروسيا تملك ورقة مهمة يمكن أن تلعبها في هذه المجالات خاصة وأن الخبرات الروسية باتت سهلة الاقتناء وقواعد الشراكة تتسم بنوع من المرونة”، مقارنة ببعض الدول الغربية.
لكن بالنسبة للأفارقة، السؤال اليوم يتعلق أكثر بمعرفة إذا كانت روسيا قادرة على القيام بهذه الاستثمارات كونها لم تعد قوة مالية كما كانت عليه خلال قمة سوتشي”.
وبالرغم من أن روسيا قاومت وتحملت العقوبات الدولية التي فرضت عليها مقارنة بما كان يتصوره مساندو أوكرانيا، إلا أن اقتصادها شهد تراجعا ملحوظا منذ بدء الحرب على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022. فوفق تقديرات البنك الدولي، تقلص الناتج الإجمالي المحلي الروسي بـ2.1 بالمئة في 2022 ويتوقع أن يتقلص بنسبة 2.5 بالمئة في 2023.
وعود زائفة؟
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وعد بوتين أمام حوالي خمسين رئيس دولة أفريقية تجمعوا في المنطقة السياحية بمدينة سوتشي بـ”مضاعفة خمس مرات التبادلات التجارية” مع القارة السمراء.
لكن بعد عدة سنوات من النمو، تراجعت قيمة التبادلات التجارية بين روسيا وهذه القارة من 20 مليار دولار إلى 17.7 مليار في الفترة ما بين 2017 و2021.
عكس الاقتصاد الصيني الذي سجل 282 مليار من التبادلات مع أفريقيا والاتحاد الأوروبي (254 مليار دولار) والولايات المتحدة الأمريكية (83 مليار دولار). وما زالت الاستثمارات الروسية لا تمثل سوى 1 بالمئة من إجمالي الاستثمارات العالمية الأخرى في أفريقيا.
وفي رسالته للدول الأفريقية، كتب بوتين أن التبادلات التجارية بين بلاده وأفريقيا ارتفعت في 2022 لتصل إلى 18 مليار دولار، مشيرا في الوقت نفسه أن “إمكانيات رفع سقف وقيمة هذه التبادلات لا تزال كبيرة”.
وما يميز روسيا هي كونها تهوى دائما “تقديم وعود كثيرة بدون أن تفي بها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتزاماتها الاقتصادية تجاه أفريقيا” يشرح جوزيف سييغل، صاحب تقرير حول الالتزامات الاقتصادية الروسية تجاه أفريقيا.
بالنسبة لهذا الباحث الأمريكي، روسيا تبحث قبل كل شيء “دعم وتشجيع مصالحها الاستراتيجية والتأكد بأن لديها موطئ قدم في المتوسط على الحدود الغربية لدول حلف الناتو، إضافة إلى إضعاف التأثير الغربي وفرض رؤيتها للعالم”.
وفي هذا الشأن، شرح إيغور دولانوي، نائب مدير المرصد الروسي الفرنسي المشترك أن” باستثناء بعض المتعاملين مثل مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا، فباقي الدول الأفريقية الأخرى لا تشكل سوقا ذات أولوية قصوى بالنسبة لروسيا”.
وتابع: “بلدان صحراء أفريقيا مثلا لا يمثلون سوى مليار أو مليارين من الدولارات في ميزان التجارة الخارجية الروسية التي بلغ حجمها 700 مليار دولار سنويا. لكن مع ذلك، موسكو تحتاج إلى بناء شراكات جديدة وعلى هذا الأساس يمكن أن تكون السوق الأفريقية واعدة بالنسبة لها”.
من ناحيته، أضاف جوليان فيركاي أن: “اقتصاديات الدول الأفريقية مختلفة وعبارة عن فسيفساء، لذا روسيا هي المطالبة بالتأقلم والتكيف مع هذا الوضع إذا ما أرادت أن ترفع من نسبة تبادلاتها التجارية والاقتصادية مع كل بلد أفريقي”.
الدول الأفريقية تبحث عن “بدائل قوية لعلاقاتها مع القوى الغربية”
لكن في نفس الوقت، يعتقد هذا المتخصص الاقتصادي أن الرهان الأول الذي تمثله القمة الروسية الأفريقية هو “الحفاظ على صورة الشريك البديل الذي يمكن أن تلجا إليه بعض الدول الأفريقية التي “تبحث على بدائل قوية لعلاقاتها مع القوى الغربية”.
وأضاف: “البعد الاقتصادي ليس غائبا في مثل هذه القمة. لكن الظهور وإثبات الوجود في وقت تعاني موسكو من العزلة الدولية التي فرضتها الدول الغربية، هي من بين الأهداف الرئيسية التي تريد روسيا تحقيقها خلال القمة”.
وطبعا في هذا الإطار، معركة الاتصال التي تقوم بها كل من كييف وموسكو من أجل كسب دعم رؤساء الدول الأفريقية، بلغت ذروتها. فعلى سبيل المثال، امتنعت حوالي 20 دولة في مارس/آذار 2022 من التصويت لصالح قرار أممي يدعو روسيا إلى سحب قواتها العسكرية من أوكرانيا”.
وأنهى الصحافي السنغالي أداما غاي: “الرؤساء الأفارقة لا يريدون دعم الغرب في صراع لا يعنيهم. لكن هذا لا يعني بأنهم يساندون روسيا. القمة الأولى التي نظمت في مدينة سوتشي في 2019 كانت تشبه القمم الأخرى التي نظمتها الولايات المتحدة الأمريكية مع أفريقيا، لكنها كانت ناجحة. اليوم الوضع السياسي والاستراتيجي تغير. فالأفارقة أثبتوا بأنهم مستعدون للتوقيع على مشاريع اقتصادية لكنهم في نفس الوقت لا يريدون أن يستخدموا كأداة في الصراع الروسي الأوكراني والغرب. هم يريدون الدفاع عن مصالح الأفارقة فقط”.
Share this content:
اكتشاف المزيد من موقع دار طيبة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.